تتمة نص خبز الفقراء …
وصلت إلى المحطة ، أخدت تذكرتي وجلست أنتظر، سيأتي قطاري بعد تُلث ساعة هدا ما كُتب على السبورة الإلكترونية. كانت القطارات تمر كل اللحظات من أجل المنتظرين لكنها لا تجبر أحدا على الركوب .نوع من الحرية هذا. أحسست بالملل لأنني كُنت أنظر إلى الناس بالمنطق، رجل يحمل تذكرته، ويٓجرُّ حقيبةََ، كبيرةََ عرجاءَ بعجلةٍ واحدة، يتذمر كلما ثعترت به، يقصد عامل المحطة،يسأل عن القطار المتوجه إلى الغرب ، يجيبه العامل ذاك الذي في السكة الثانية، الرجل يؤكد: السكة 2 ؟ يجيبه العامل : نعم سيدي، يمضي خطوتين، لا يصدِّق العامل ويعيد طرح نفس السؤال على أحد المسافرين، يرسله المسافر أخير إلى قطار آخر في السكة رقم 1 .يقصده الرجل . لا أحد يصدق عمال الدولة! يرحل قطار السكة التانية، تُرمى حقيبة سوداء بقوة من أحد أبواب القطار المتوقف. تعرفت على الحقيبة ، تلك العرجاء.. السوداء، الضخمة، نعم هي نفسها، ثم ينزل صاحبها من قطار السكة 1 شاكيا، لا يرحم ضعف و لا إعاقة حقيبته، يجرها بقوة باتجاه العامل، يمرغ وجهها في التراب وهو يصرخ في وجه السلطة و الدولة قائلا: لو كان هيتلير لايزال حيا لنبدكم جميعا، أنتم غير منظمين، لمادا دللتموني على قطار لا يقصد وجهتي ؟؟ …يتبسم شيخ من المسافرين قائلا ومن فينا سلك قطار وجهته الصحيح في هده الحياة؟ المهم لم يعجبني المنطق كثيرا، أخدني من النقطة أ إلى النقطة ب .النتيجة نحن شعب مصاب بآنفصام مزمن في الشخصية. أفضل العودة إلى الخيال، يأخذني الخيال إلى كل مكان..،تنطلق جميع القطارات، يخف زحام المحطة حتى تخلى تماماً . سيدة محجبة، كئيبة،تجلس بجانبي ،لا تكترث لما يحدت. تحمل حقيبة مدرسية لطفل صغير، وصندوق صغير من الحلوى، تبتسم فقط في وجه الأطفال. ربما تنتظر زوجها ليأتي بطفلها؟ ربما تنتظر نفس قطاري.. ركبت القطار تعثر في السير في أولى عشر دقائقه ، شيء عادي لا أحد يتذمر. مع استأنافه السير، انتشر صوت نسائي مخدوش منبعث من مكبرات صوت صغيرة ، جلها يحدث صوتا مزعجا، ثُبتت في سقف مقدمة، ووسط القطار وآنْتُشِلتْ من مؤخرته لأنها مقصورة الدرجة الأولى ولا تتحمل الإزعاج، وهناك شخص يشتغل عوض هاته المنبهات خصيصا ليوقظ الأغنياء عند وصولهم. المهم أطلقت مكبرات الصوت صفارات إنذار معلنة عن المحطات التي سيمر بها القطار، وصولا إلى مدينة الدار البيضاء، أحمد الله أني أعرف وجهتي لأن هاته المكبرات في النهاية لم تقل شيئا مفيدا …لايهم نحن شعب الدرجة الثانية وصلنا أم لم نصل لا أحد سيوقظنا و لا أحد سيسجل غيابنا …
آخترت مكاناً بمقعدين فقط تفاديا للدخول في حوارات أنا في غنى عنها. كان همي الوحيد أن أصل قبل وقت صلاة الظهر لأتمكن من دخول المقبرة…
دخلت المقبرة بدون مشاكل مع الحارس، اكتفيت فقط بالسلام عليه، سألني كالعادة هل تحتاجين لمقرئ، قلت لا سأكتفي اليوم بالدعاء. مضيت تاركة إياه في صراع مع سيدتان ، تحملان أكياسا. ربما تريدان دخول المقبرة لأسباب أخرى. تلاشى صوت الشجار مع آبتعادي من المدخل.أمرُّ بموكب جنازة ، وافدة أو وافد جديد،المقبرة المكان الوحيد الذي لا يعرف الإفلاس. يقوم الحفار بعمله، حفرة ضيقة لا تتسع لحوض سمك.
أبتعد قليلا أحاول تذكر الطريق إلى قبر جدي، لم يغريني صمت القبور لآني لا أعلم إن كان أصحابها في نعيم أم جحيم العلم لله. سلمت على الجميع كما علمني جدي قائلة: سلام عليكم يا أصحاب القبور أنتم السابقون ونحن اللاحقون .لا مجيب. أخدت قِدر الماء لأٓرشّٓه على قبر جدي. صمت رهيب يخيم على هذا المكان،أحسست بضعفي وقوتي في نفس الوقت. ضعفي لآني ولو فررت الى بروج مشيدة هذا هو مسكني الأبدي، ولا أحد سيمنع عني عزرائيل إن أتى بخبر آنقضاء أجلي. أما إحساسي بقوتي فكان إحساسا ربانيا، أن الله لا يزال يمنحني روحا أتحكم في حركاتي الإرادية . بينما هؤلاء خرجوا عن السيطرة على أنفسهم، تحدّٓيت أٓحدهم أن يقوم بمحض إرادته ويقرر اليوم أنه سيأكل السفنج عند مقهى عمي أمبارك .. كلا إنها كلمة هو قائلها، لقد آنقطعتْ أعمالهم الدنيوية وبات عليهم ان ينتظروا رحمة الأحد، الصمد.
جاء على بالي دعاة الانفتاح، أينكم يا منظمات الحرية كيف تسمحون بهدا الإحتجاز؟ لماذا لا تحققون في خبايا هاته الإبادة الجماعية؟ كيف تبررون عدم قدرة هؤلاء على الإستيقاظ؟ ، الساعة تشير الى الحادية عشر والنصف صباحا و هم لازالوا نيامآٓ وهكذا يفعلون دائماً، جدي من بينهم، وعادة في هاته الساعة يكون قد عاد محملا من البحر …مالي لا أرى صاحب الإحصاء بمحفظته البيضاء كما تركته في حينا؟ أينكم يا من تدعون لحرية المرأة تتحايلون على النساء، تبنون مقراتكم وسط المدينة وتتركون المقابر بجانب البحر،لتتخلصوا من رائحة الموت. كل مقابرك يا مدينتي شيدت على جنبات البحر، جدي يعشق البحر لكنني استنتجت أن دعاة الحرية يٓفْصِلون بين العالمين بضجيج أمواج البحر، ليحجبوا عنا عالمنا هذا الحقيقي، إلى أن تتحقق الآية » لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ». صدقت يا ربي.. .
حينها قررت كأنثى، تبرأت من كل من يريد أن يحررني و ينزع ثيابي عني بدافع الديمقراطية. تأكد لي أنها مجرد كلمات أنتجتها الدول لتتناسى مصيرها الحقيقي. تتحدثين يا منظمات عن الحرية و الديمقراطية فهل لكي أن تشرحي لي أين نصيب هؤلاء من دمقراطيتك التي وضعتها مسطرتك؟ علمتني دروس التربية على المواطنة أن الدمقراطية هي حكم الشعب » لنفسه . فما بال هؤلاء فقدوا الحكم عن أنفسهم ؟ . قررت الترشح أخيراً لحزب الله وأن أتخد القرآن دستورا لي، وإن فزت بالأغلبية، لن أعد أحدا بأني سأقوم بالقضاء على الفقر ولا إنشاء الجامعات ولا تغيير مجاري الأزقة، سأرفع فقط حصار الأمواج الوهمي وسأعلن بناء المقابر وسط المدينة علنا. حتى تتلاشى سياساتكم الوهمية ويتذكر الجميع مأله الأبدي. فقط للذكرى… وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
ما كان علي لأنفعل،تأخرت ، ضيعت قبر جدي وما أريده ليغضب مني !. عندما كان يسألني أحدهم عن منزل جدي في حياته، أقول له ذاك ذو الطابق الواحد، بالقرب من تلك الفيلا الجميلة فيقصده بثبات، الأن في المقبرة لم أجد من أسأل. و إن وجدته ما أصاب قبر جدي.كل القبور متشابهة، شهدت اليوم أول دروس العدل في تقسيم الثروة. هذا هو المعنى الحقيقي للديمقراطيه ، الوزير والرئيس والملك والراعي وجدي الصياد الكل يفترش التراب ويُغطّٓى بالحجر. ولا أٓحدهم يتذمر ومن يدري بهم الله أعلم…
أخيراً وجدت قبر جدي، ذلتني عليه شجرة الليمون الميتة هاته.رن هاتفي ترددت تم أجبت ، إنه المسؤول المالي لمؤسسة الضحى يسألني هل أريد أن تطل شقتي التي آشتريت منذ أيام ، على الشارع أم على الحي، علي أن أقرر لأستلم المفاتيح في الأسبوع الموالي، نظرت إلى قبر جدي تبسمت وتذكرت أنه كان يملك منزلا هو كذالك فلماذا آنتقل من العمران إلى الخراب؟ لما لم يلزم بيته أوليس من ماله الحلال؟ يصيح المسؤول في الهاتف : آلو ! أين ذهبت؟ أجيبه أنا هنا سأختار الخيار الثالت، قال: خيرتك آتنين فقط! قلت : سأضيف أنا الخيار الثالت و سأ تخلى عن منزلي هذا، إني لا أقوى على حرب من الله ورسوله. لن أشتري منزلا بالربي لأتركه أخيراً وأنام على التراب. تعجب الرجل وأقفل الخط. تركته وشأنه فليقل ما يريد،مجنونة نعم.. أصلا لم أعد أصدق أحدهم…
ما كان علي لأنفعل ثانية، آرتجع حمض معدتي، تشجأت طعم السْفنج والشاي ، أحسست بمرارة في حلقي. علي لأهدأ من روعي لأتذكر الدعاء…
بدأت برش الماء فوق قبر جدي وتذكرت حينما كان يطلب مني رش السمك ليبقى حيا، علمت أنه كان فقط يتحايل علي ليشغلني بفعل شيء، الصيد ممل. والأطفال يكرهون الملل. كبرت و علمت أخيراً أن السمك إذا خرج من الماء يموت. قتلت أنا و جدي الكثير من السمك شاركته في جرائمه مرات عديدة.لن أسلم نفسي فليحكموا عني غيابيا…
بدأت بالدعاء لجدي بما كان يحفظني، لم أجتهد في شيء فقط بضاعته ترد إليه. فجأة سمعت صوتا رقيقا مختلطا بالدموع يقول: كالعادة أنا سأغني وأنت ستطفأها… آنتابني شيء من الهلع، لا أؤمن بالأرواح الشريرة لأن دستوري لم يسطرها في كتابه. رصدتْ عيني القبر المجاور لجدي ، ماذا تفعل تلك السيدة هنا..؟ رجعت بي الذاكرة تلات ساعات إلى الوراء .. نعم تلك التي تبتسم فقط للأطفال ما تصنع هنا ؟ و لماذا تبكي؟ آقتربت منها ظننتها تريد أن تحرق ذاك القبر لكنها كانت تحاول فقط إشعال شمعة منعها من ذلك ريح البحر، آقتربت منها من دون أن أكلمها وضعت كفي حول عود الثقاب لكي أحجب عنها الريح. نظرت إلي وغرست الشمعة في القبر، ثم أخرجت قطعة الحلوى من قالبها ،الحلوى كتب عليها آسم محمد والرقم 7 . أخبرتني أن عيد ميلاد آبنها محمد هذا يصادف الدخول المدرسي، أول سنة لطفلها في المدرسة الابتدائية . لذلك آشترت له محفظة سبايدرمان أيضاً كهدية . سألتني ما عملك قلت:مخرجة، قالت: إذن تعرفين الرسم قليلا. قلت: لا ولكن أقوم ببعض المحاولات ، قالت: هل لكي أن ترسمي وجه البهلوان على قبر آبني إنه يعشق ذلك. تتكلم عنه كما لو أنه لايزال حيا!!! تمسح دموعها ؟ قائلة هل لكي أن تحتفلي معنا؟ أقول في نفسي أي آحتفال هدا وسط المقبرةأي آحتفال بطعم الدموع…؟ كم عمر طفلك؟ تجيب:7سنوات. أنا: فقط؟ مابال هذا الموت لا يرحم أحدآٓ، كيف يحكم هذا الموت ؟ طفلك مازال صغيرا، جدي مات وعمره أكتر من 70 سنة، والأن هو يرقد بجوار طفلك، آستغفرت الله وتذكرت قوله، « وإن جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون « ، حاولت أن أشرح لها أن ما تقوم به ليس صحيحا وعليها أن تكتفي بالدعاء له فقط لكنها أم ،والأم عادة لا تؤمن بمثل هاته النصائح…
حينها وضعت حدآٓ لآشتياقي، عندما علمت قصة هاته الأم التي تشتاق لطفلها، فتذهب تقف أمام الروض في نفس الساعة كل يوم ، تنتظر خروجه و الأطفال، وهي تعلم مليآٓ أن سيارةٓٓ قد دهسته قبل أسابيع . وتلك الأم هي نفسها من دفنته بيدها. و تلك اليد هي نفسها من تصنع حلوى الشوكولاتة لعيد الميلاد كل سنة لتحتفل به في المقبرة.فمن له حقّ الاشتياق؟
ذكرني قبر جدي أن الموت آت لا محالة، وعلمتني أم مُحَمَّدٍ أن من يرحل لا يعود، و خير دليل هو هذا الطفل البريء أغريناه بكل مايحب من حلوى الشوكولاتة و رسم البهلوان،ومحفظة سبايدرمان.. فقط لينهض ويحتفل معنا، ومع ذلك أبى أن يستيقظ… عذراً، الأمر لم يعد بيدي يا أمي …
أذان الظهر الأول، علي أن أترك المقبرة وإلا قضيت الليل فوق قبر جدي…
اللهم اجعل أكبر همنا الآخرة.
🙂 أسماء المدير