زير الطاولات و خبز الفقراء

كتبت هذا النص بالقرب من مطار آسطنبول الدولي ، « إلى كل أنثى أحست يوما بالإهانة »

في طريقي إلى زيارة قبر جدي أحسست بالعطش، تذكرت حينها أنني لم أفطر بعد، ساقتني حاسة الشم إلى رائحة « السْفنج المغربي » ، تحركت عيناي لترصد زاوية آنبعاث الرائحة، إنه مقهى عمي مبارك الشعبي. اقتربت و طلبت الطفل الصغير أن يأت لي بما هو موجود، علي أن أسرع سيقفل باب المقبرة قبل صلاة الجمعة. كان المكان فارغا بقايا لعبة الشطرنج ورائحة الشيشا والسجائر تملأ ان  المكان،صورة المنتخب الوطني علقت كبيرة كتب عليها  بالخط العريض الأحمر   » ممنوع التدخين « ،  بزغ النهار ولم يتخلص المكان بعد من بقايا رائحة الليل الظنكاء. عيناي مازالتا تتفقدان المكان ، هده أول مرة أدخل فيها مقهى عمي آمبارك، كان يصلني فقط ضجيج « صحاب الضامة والتيرسي ».
كنت أبحت عن مكان أتوارى فيه عن الأنظار، أريد فعلا أن أفرح بطني  » بسفنج » طري و شاي ساخن، بدراهم معدودات، ولكن في نفس الوقت لا أريد أن يراني أحد من الجيران والمارة، هدا مكان لمزاولي مهنة الميسر،ولا يصلح للفتيات مثلي.أبحت بين الطاولات ومواقعها الاستراتيجية، هذه طاولة نظيفة لكنها جاءت في موقع الإستقبال، هذه طاولة أخرى مختبئة ولكن بها أربع مقاعد. ماذا لو دخل أبناء الحارة وأرادوا الجلوس لن أقدر على منعهم!!
عيناي ما زالتا تمسحان المكان بتلاتمائة وستين درجة، وقعت عدسة عيني أخيرا عن طاولة شبه معزولة ،وحيدة، نعم طاولة ذات كرسي واحد…
أثارني الفضول ، عادة لا توجد طاولة بكرسي واحد لأن الحياة لا تعاش بدون مشاركة فما بال هاته الطاولة؟
آقتربت منها بثأن ، سلمت فلم تجب،آنطوائها منعها من التحديق إلي . بأمر منها بادر كرسيها المخلق بآستقبالي، عاد الى الوراء خطوتين ففهمت أنه يوحي لي بالجلوس ، جلست أرادت أن تتفوه بشيئ تم سكتت فجأة، إنه الطفل قادم مرة تانية ليسألني: ماذا تحبي لتشربي مع « السفنج » ،أجيبه بسرعة شاي وبدون نعناع، ينصرف الطفل ، أتجاهل الطاولة وأنا أعلم أنها هي من سيبادر بالكلام ، الأنثى لا يروق لها النميمة إلا مع الأنثى مثلها ، أرادت أن تستفزني قائلة: هل لكي أن ترفعي ساعدك الأيمن قليلا عني لقد أوجعتي ظهري! وأرجوك أن تتمهلي على كبدي؟ علمت أنه نوع من ice breaker، فأجبتها بقليل من السخرية ردا على استفزازها: تكلمي أسمعك وبدون مراوغات:  مابالك مختبئة، وحيدة ، مهملة؟ حتى صاحب النظافة لم يجد عليك بمسحة من منشفته!! لا جواب..

  أعجبني كبريائها ، الصمت يعم المكان تنبعت أغنية أم كلتوم  » حسيبك للزمن »  من مذياع قديم علق بأحد جدران المقهى الصغير، تتكلم الطاولة أخيرا: لا أحب هاته الاغنية !

مابالك يا طاولة ليس في الوجود من يكره أغاني أم كلثوم؟ تجيبني بلغتها الأم، لغة الخشب : أريد النسخة القديمة من بعض القلوب، تحديثات الزمن لم ترقني إطلاقا. لم أفهم فلسفتها كالعادة ولكن لأول مرة أسمع لغة الخشب من أصحابها الحقيقيين. يصل الطفل أخيراً و في يده ما طلبت، أمسك « بالسفنج » أولا من يده، ينصرف النادل الصغير ، تصيح الطاولة لا تضعي خبزك فوقي فقد سكب أحدهم كأس النبيذ على ظهري ليلة البارحة، ووجهك يوحي لي بأنك عفيفة… ظننت أنها تريد فقط التقرب مني أكتر، غريب أمر هاته الطاولة تريد أن تفصح عن ألمها وتمنعها كرامتها. المهم يجيء عامل المقهى بمنشفته ليمسحها فيتأكد لي ما قالت.

أتبسم لصراحتها وخوفها علي،أنهمك في أكل « السفنج » أنساها قليلا، فأسمع همس شفتيها كالعجوز ،ردا على تجاهلي : جميعكم متشابهون … تضيف: تحتسون كؤوسكم على ظهري، تشبعون،تضحكون تم تنصرفون… أرييييييد أن أسسسسستمتتتع بفطوريييييي!!! كان هذا ردي عليها بلطف لكن بصرامة.

الثامنة و عشرون دقيقة، يلزمني ساعتان لأصل إلى مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، طاولة عنيدة تريد أن أفهم ما بها دون أن تتكلم بلغتي ، أضيف لتصمت: عذرا فأنا لم أتعلم لغة الخشب قط، هذا يوم جمعة فآدعي ربك أن يبعث إليك بأحد رؤساء الأحزاب حتما سيفهمك، أما أنا فجدي آعتاد على سماع دعواتي له في كل جمعة، علي أن أُشبع بطني لألحق وقت القطار. تضيف غير أبهة بكل ما قلت:  كلكم خائنون.. أضع ما بيدي بغضب على ظهرها وأصيح في وجهها: أيمكنك أن تجودي علي بقليل من السكوت؟ أتعرفينني؟ ما ذنبي هذا الصباح حتى أصادف مثلك؟ رأسي يألمني، أريد أن أتذوق طعم الشاي وأن أستمع لأم كلثوم،لا أفهم في السياسة،  أفهمت أم لا ؟؟؟  يرفع عامل المقهى من صوت المذياع لتنبعث هاته الكلمات منه 🙂 :
 » وانت مش ح تلاقى ابدا زى حبي،
بكره تتمناني أحاسبك
أو ألومك أو اعاتبك
مش ح حاسبك مش ح أعاتبك
لأ دنا كفاية إنى سيبتك للزمن »…
ينتابني الندم على فعلتي، لقد ألمتها حتما بوضع الكأس على ظهرها بقوة، مافيها يكفيها…. ربما لا ينفع الندم . المهم برد شايي و خبزي لم يعد يرقلي الأكل. هٓمُّ الطاولة أقفل شهيتي. لعنة عضة « السفنج » هاته  تلاحقني، وضعت فطوري جانبا، اقتربت من الطاولة مسحت ما سكبت عليها من شاي وقلت بلطف: تكلمي أذني معك و بدون لغة خشب من فضلك…
يدخل عامل المقهى ببعض الكراسي ليضعها أمام طاولاتها، تقول صديقتي: أترين ذاك الكرسي الجميل ؟ ألتفت ثم أعود لأقول لها كلهم متشابهون !! نفس المادة ونفس الطلاء!! ربما عيناك من تراه جميلاً؟ فعلى أيهم تتحدثين؟ قالت ذاك الكرسي في يد النادل اليمنى… أجيب: نعم ما به؟ تجيب: كان شريكي لي في الحياة منذ سنين، كان يحمل نفس لون طلائي ويتقاسم نفس همي كنا نعيش بسلام، أنا هو وآبني..قاطعتها: وأين آبنك؟ أجابت : عليه تجلسين.
!!! حاولت أن أقف من مكاني بذعر يا للعار!! آأجلس على آبنك ؟ تجيبني أما أخبرتك بأن تتمهلي على كبدي؟؟ لاعليك !! منعتني من الوقوف مضيفة: لقد تركنا وذهب ليعيش حياة العزوبة، لم يبدي أبدا ندمه و حسرته على خسارتنا… يجر النادل الكرسي فيحدث صوتا عاليا. تقول الطاولة : آستمعي لقهقهته،و انظري لسعادته، فهو لا يأبه لطعنات قلبي، ينام طفلي وأبيت أنا أرْقب تنقله بين الطاولات، من طاولة لأخرى حتى ينجلي الليل فينام على بطنه…همه الوحيد أن يغيضني…قلت لها لماذا لم تصبري من أجل ابنك المُخٓلق هذا؟ سكتت قليلا.. عادت للغتها الأم وقالت قولتها الشهيرة: مملة هي الوحدة لكنها أكثر إنصافا من ضجيج يمتلأ نفاقا…
فهمت أنها لن تتحدث أكثر من هذا، المقبرة؟؟ القطار؟؟؟ المكان بدأ يمتلأ بأصحابه الأصليين، ،كنت أرى أنواع الوافذين فقط من خلال أحذيتهم، إختلطت الأرجل من حولي علي أن أمضي … وقفت ، عرجت بالخروج ،وضعت دراهمي على ظهرها، صاحت :أنت!! ظننتها تريد أن تودعني، فقالت: خدي دراهمك وضعيها في جيب صاحب المقهى، حتى لا يراها شريكي السابق فيظن أنني قد آمتهنت التسول…

  علمتني الطاولة أن الخيانة هي أعظم إهانة يمكن أن تتعرض لها الأنثى وتعلمها لغة الحقد، حتى ولو صنعت من خشب… 🙂

يتبع…  » قبر جدي الصياد يطل على البحر »

أسماء المدير

2 réflexions sur “زير الطاولات و خبز الفقراء

Laisser un commentaire